اغتراب قصيدة النثر في العقل الجماعي … بقلم: عبدالكريم حنون السعيد

منبر العراق الحر :

لم تعد قصيدة النثر غريبة لأنها بلا وزنٍ أو قافية،
بل لأنها فقدت توازنها بين الحرية والذوق،
وبين الوعي الفردي والجماعي،
وبين الجمال بوصفه تجربة، واللغة بوصفها وسيلة.
الشعر، في جوهره، ليس بناءً لغويًا فحسب،
بل تحفيز لذاكرة الوعي الإنساني.
إنه لحظة استيقاظ في ذهن المتلقي،
حين تمسّ الكلمة منطقة عميقة في اللاوعي
فتعيد ترتيب الصور والمعاني في داخله.
كل قصيدة تُكتب لتُعاد كتابتها في وعي القارئ.
فالمتلقي ليس متفرّجًا بل شريكٌ في خلق المعنى.
وحين ينقطع هذا التفاعل، تتحول القصيدة إلى صوتٍ بلا صدى.
لقد اغتربت قصيدة النثر عن جمهورها،
لأنها تركت لغة الناس اليومية،
وتعالت بالرمز والمصطلح والغموض المتكلف،
فصارت خطابًا للنخبة، بعد أن كانت الشعر الذي يُخاطب القلب الجمعي.
ليست المشكلة في غياب الوزن،
بل في غياب الموازين الداخلية التي تحفظ توازن الجمال.
تحرّرت القصيدة من التفعيلة،
لكنها لم تجد ميزانًا جديدًا يضبطها من الداخل.
لقد غابت عنها الموسيقى الخفية التي تهزّ الوجدان،
فانفصل الصوت عن المعنى،
وصار الإلقاء جافًّا لأن الكلمة لم تعد تحمل إيقاعها الداخلي.
وهكذا وُلدت الحاجة إلى العروض المعنوي،
حيث يُقاس الشعر بقدر عمقه الدلالي وتوهجه الوجداني،
لا بعدد التفعيلات أو القوافي.
الحرية في الشعر لا تعني الفوضى،
بل الوعي بما لا يُقال بقدر ما يُقال.
الشاعر الحرّ هو من يعرف حدوده الجمالية،
ويكتب بعينٍ على الجمال وأخرى على الضمير.
حين يتخلى الشاعر عن مسؤوليته تجاه الكلمة،
ويستبدل الجمال بالغرابة، والصدق بالابتذال،
يخسر الشعر رسالته الأولى: أن يوقظ الوعي لا أن يجرحه.
صوت الشاعر جزءٌ من القصيدة،
فالإلقاء ليس نطقًا بل تجسيدٌ للمعنى.
الكلمة حين تُقال ينبغي أن تُسمع بروحها:
إذا ذُكر المطر، فليكن في الصوت وقع المطر،
وإذا قيلت الريح، فليتحرّك النفس كأنّه نسمة.
إن قصيدة النثر بحاجة إلى قواعد صوتية وجسدية جديدة
تجعل الإلقاء فعلًا فنيًا يُعيد الحياة إلى النص.
الشعر ليس تمرّدًا على الوزن فقط،
بل بناءٌ للوعي الجمالي.
وإذا فقد الشاعر الذوق،
تحولت قصيدته إلى فوضى لغوية تُربك السمع والبصر معًا.
إن مهمة الشاعر أن يُعيد ترتيب الفوضى بالعقل،
وأن يصوغ من اللغة طاقةً للنقاء،
لا غبارًا للغرابة.
فالكلمة التي لا تُضيء، تبهت.
والقصيدة التي لا تلامس الإنسان، تموت في الهواء.
أيها الشعراء،
إن الحرية التي تنشدونها لا تكمن في كسر الوزن،
بل في تحرير الكلمة من سطحها إلى عمقها.
ليس الشعر تمرّدًا على العَروض،
بل مسؤولية تجاه الجمال،
واحترام لذائقة المتلقي الذي يبحث عن صوته في نصوصكم.
لا تجعلوا قصيدتكم برجًا من العزلة،
بل جسرًا بين وعيكم ووجدان الناس.
تحدثوا بلغةٍ طاهرةٍ تلامس القلب،
ولا تُغرِكم الفوضى التي تُسمّي نفسها حداثة.
فكل كلمة تُقال بلا ضمير تموت،
وكل قصيدة تُكتب بصدق تنجو من النسيان.
أعيدوا إلى قصيدة النثر قلبها وصوتها،
وأعيدوا إليها الإنسان الذي تكتب من أجله.
حين تصدق الكلمة،
تتحد الحرية بالجمال،
ويعود الشعر إلى مكانه الأول:
نبض الوعي، وصوت الروح، وذاكرة الإنسان.

اترك رد