“القاهرة” بين فخ العلمانية المأجورة والأصولية الرجعية

منبر العراق الحر :

فتح الهجوم على مؤسسة “تكوين الفكر العربي”، التي تمّ تدشين مقرّها أخيراً في القاهرة، برئاسة الكاتب إبراهيم عيسى، والروائي يوسف زيدان، والمفكر فراس السواح، الباب أمام تجدد الصراع بين التيار العلماني في القاهرة، وبين التيار الإسلامي الأصولي، في ظلّ الاتهامات التي وُجّهت إليهم بالترويج لنشر الإلحاد، وتلقّي الأموال من الجهات الخارجية المشبوهة، والتطاول على ثوابت الشريعة الإسلامية تحت لافتة “التنوير” وحرّية الرأي والتعبير.
في اعتقادي، أنّ الأزمة الأخيرة التي أشعل فتيلها يوسف زيدان وفراس السواح، أعمق من فكرة الصراع بين التيار التقدمي والتيار الرجعي، في ظلّ التطاول على رموز النخبة المصرية، أمثال عميد الأدب العربي، طه حسين، وتعمّد وقصد الإساءة إليه من قبيل صناعة حالة من الإثارة والترويج للمؤسسة الوليدة التي اتخذت من ذكرى رحيله الـ50 باكورة لنشاطها من داخل المتحف المصري الكبير.
رغم إعلان القائمين على مؤسسة “تكوين”، أنّها منصّة معنية بالروافد الثقافية والأدبية المختلفة، فإنّها منغلقة على اتجاه فكري واحد، أكثر ما يميز منتسبيه إتهامهم بالطعن في السنّة النبوية والتشكيك في متون النص القرآني، بعيداً من تعزيز القيم العقلانية في قراءته، وذلك خلال اسهاماتهم المقروءة والمسموعة والمرئية، فضلاً عن أنّ منهم من أعلن صراحة تحليقه في الدين “لا ديني”، في إطار نزعة قائمة على استبعاد الدين من المجال العام بطريقة شاملة.
لا تتقدّم المجتمعات إلّا في ظل التنوع الثقافي والفكري، وتدشين العشرات بل المئات من المؤسسات العاملة في مجالات التوعية التي تخلق عقولاً تتمتع بالقدرة على النقد البنّاء، واحترامها للآخر وعدم الطعن في فكره وعقيدته، واهتمامها وإيمانها العميق بما ترى وتؤمن، فالاختلاف لا محالة يدفع للإبداع، كما أنّه أحد سمات الحياة وطبيعتها.
واقعياً، سقطت القاهرة بين سندان “التنويريين الجدد”، ومطرقة “الأصولية الرجعية”، أحدهما نصّب نفسه متحدثاً عن الله، وعمّم مفاهيم التكفير والجاهلية على المجتمع، وإهدار دماء مخالفيه، بينما الآخر احتكر الحديث عن “الإنسانية”، واتهم الدين بأنّه مستنقع من الوحل والخرافات والدجل، من دون أن يضع حداً للتفرقة بين التطاول والطعن وبين إعمال العقل والمنطق في قراءة وتفسيرات النص الديني.
الانشغال بثنائية الصراع بين “التنويريين الجدد”، و”الأصولية الرجعية”، أغفل قراءة وتجلّي القواسم المشتركة بينهما، لا سيما ادعائهما امتلاك الحقيقة المطلقة، وتضخم ذواتهما، وانحيازهما للديكتاتورية الفكرية، ومحاولة فرضها على المجتمع، والتفرّغ التام للنيل من معتقدات الآخر، فضلاً عن غموض جهات التمويل لكل منهما.
وفي الوقت الذي لم تقبل فيه “الأصولية الرجعية”، التعددية الفكرية والسياسية في العمق المجتمعي، فإنّ “العلمانية الحديثة”، تخلّت عن مساعيها في تبنّي محددات الأطروحات القومية والحقوقية، ودارت في نطاق الأطر”الأيديولوجية”، التي حولتها في النهاية إلى مجرد حركة “علمانية مأجورة”، مرهونة بتمويلات الأجندة الغربية.
ربما أخطر التقاطعات التي يلتقي فيها تيار “العلمانيون الجدد” مع “الأصولية الإسلاموية”، اعتمادهما على “التقية الحركية”، أو ما يُعرف بـ”التخندق الأيديولوجي”، في تمرير أجندتهما، فأحدهما يلتحف بعباءة “التنوير”، بينما الآخر يتوارى خلف الإطار السياسي، رغبة في الهيمنة على حواضن “الدولة” ومؤسساتها، في حالة من التنازع ما بين التحرر من المرجعية والهوية الدينية، لإعلاء “الدولة المدنية”، أو التحصن بمنطلقات الفكرة الأصولية، لبناء “الدولة الدينية”، من دون وضعهما لمحددات جلية حول مفاهيم الدولة والديموقراطية والحرّيات.
يعدّ الاستقطاب الفكري، ركيزة أساسية لتمدّد تيارات”الأصولية الرجعية”، ويمثل كذلك عمود الخيمة لتيار “التنويريين الجدد”، الذي وضع نصب عينيه توظيف منصات التواصل الاجتماعي، في تمرير أجندته وبناء قواعد وداوئر متسقة مع رؤيته الفكرية، في حالة من التطابق مع تيارات “الإسلام الحركي”، فضلاً عن تحول القضية إلى سبوبة تدرّ دخلاً وتمويلاً من المنظمات الغربية التي تروّج لمشروع “المسار الإبراهيمي” من خلال مجموعة من المؤسسات والمراكز العالمية، التي تدعم ما يُعرف بـ”الدبلوماسية الروحانية”، المنبثقة عن التوافق بين الأديان الثلاثة، وتهدف إلى توظيف الدين في خدمة الأجندة السياسية أو ما يُعرف بـ”الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط”.
رغم أنّ إشكاليات “الأصالة والمعاصرة”، أو “التراث والتجديد”، تمثل ساحة في التناظر بين تيار “التنويريين الجدد”، وتيار “الأصولية الرجعية”، ومدخلاً في إشعال حدّة الصراع الإيديولوجي والمذهبي بينهما، فإنّها تمثل كذلك باباً للاتهامات المباشرة في توظيفها في جني الأموال وتلقّي التمويلات والمنح من المؤسسات الخارجية التي ترتبط بمصالح سياسية في الداخل المصري والشرق الأوسط، والتي دفعت في النهاية بالتيار “التنويري” للتحول إلى “علمانية مأجورة”، أو كما أطلق عليها الدكتور أحمد سالم، استاذ الفلسفة الإسلامية، “أرزقية التنوير”، ووصفها الراحل الدكتور نصر حامد أبو زيد، بأنّها “علمانية عرجاء” لا تخشى سوى على مصالحها الخاصة.
عملياً، لم يضع تيار “التنويريين الجدد” على أجندته محاربة التطرف وتفكيك أصول الخطاب الديني، بقدر ما يبذل ما في وسعه من الإتكاء على شعارات وجزئيات فرعية، لا تهدف سوى لإثارة مشاعر العوام من الناس، والتشكيك في عقيدتهم وإيمانهم، من دون أن يكون لهم دور حقيقي وفاعل في عملية الاصلاح والتجديد الفكري، التي لا يمكن أن تنفك عن الإصلاح السياسي والاجتماعي.
لا يتحرج تيار “العلمانية المأجورة”، من الارتماء في أحضان الحركة الصهيونية والتطبيع معها فكرياً وثقافياً، معتبرين أنّها تمثل درّة “الحداثة الغربية”، في مخالفة لتقاليد رموز الأجيال المؤسسة لـ”التيار التنويري”، أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وعلي عبد الرازق، وعبد المتعال الصعيدي، وسلامة موسى، وطه حسين، وأحمد لطفي السيد، وغيرهم، والتي تشكّلت في الأساس على مواجهة قيود الاستعمار، والتمرّد على الاستبداد الفكري والسياسي، مع السعي في إيجاد حركة إصلاح ديني تنويرية تنحاز للقيم الإنسانية، ولمبادئ الدولة المدنية، والاحتفاظ بأسس الهوية الإسلامية، من دون التطاول على المقدسات والرموز الدينية، أو استهداف زعزعة إيمان عوام الناس.
ربما أظهرت السنوات الأخيرة من تاريخ الحركة العلمانية المصرية بمختلف تنوعاتها، حجم تحولاتها وتناقضها في مواقفها السياسية والفكرية، والتي انحدرت بها تجاه “النفعية البراغماتية”، التي تعمل من خلالها على تحقيق مصالحها الشخصية من دون أدنى اعتبار للشأن العام ومصالحه، في تماس حقيقي مع “الأصولية الرجعية”، التي وضعتها على قائمة توجهتها في عمق الشارع المصري.
لم يبتعد تيار “العلمانية المأجورة”، كثيراً عن تيارات الإسلام السياسي و”الأصولية الرجعية”، في ما يخص فكرة “المظلومية التاريخية”، التي اتخذتها رافداً لتبرير سقوطها السياسي والشعبي، وفشلها في طرح منهج معرفي ورؤية نهضوية، والخروج من دائرة التسطح الفكري، وخلق عقلية علمانية في تفكيرها وسلوكها، ونمط حياتها، من دون أن تتبنّى نزعة لادينية، أو تحلّق بعيداً من الدين كمرتكز فكري وعقائدي.
في النهاية، ليس من الإنصاف الخلط بين العلمانية واللادينية، وإن كان التيار الإلحادي، قفز على الأوضاع، وتربّع على قمة المشهد، في ظل تراجع الدور الحيوي للتيار التنويري، وفك أوصال معضلة العلاقة المتأرجحة بين التراث والحداثة، والتفرقة بين الموقف العدائي من الدين، وبين تحييد وجوده في النطاق السياسي.
المصدر: النهار العربي
عمرو فاروق
*كاتب مصري، وباحث في شؤون الجماعات الأصولية

اترك رد