الشخصية في ظل نظام التفاهة ….عبد الحميد الصائح

منبر العراق الحر :
يتساءل (آلان دونو) الذي عمل استاذاً للفلسفة والعلوم السياسية في جامعة كيبيك بكندا والمُعارض للرأسمالية والمجتمع الاستهلاكي في مقدمة كتابه ( نظام التفاهة) ماهو جوهر الشخص التافه؟ ويجيب: قدرته على التعرف على شخص تافه آخر ليرفع كلٌّ منهم شأن الآخر فتقع السلطةُ بيد جماعة تكبر باستمرار. ياتي ذلك في سياق حديث دونو عن الأسس التي دمّرت معايير القيم في المجتمعات،فيناقش طروحات علماء الاجتماع واقتصاديين وعلماء نفس وروائيين لاحاطة هذا الانحدار الاخلاقي في المجتمع الاستهلاكي السلعي، حيث تتحطم معايير التعليم ونذهب الى التقديس وانهيار المؤسسات واعتبار المال مقياسا للأهمية بغض النظر عن مصادره ووسائل الحصول عليه . فيرى أنّ التفاهة نفسَها أصبحت مطلوبة في مجتمع اليوم حيث الأشخاص الذين يديرون هذه (اللعبة) كما يصفها ، يتمتعون بقدرات انتاج الوهم ليصبح الاختلاق ذاته قيمة، وكما نرى بالنتيجة ان نظام التفاهة يقودنا الى تسليم ملكة الحكم السليم الى نماذج اعتباطية يسوق لها من قبل السلطة ونرى انقلاب المثل ،ويصبح الكسب الشخصي هو الهدف الاول مهما كانت مشروعية الوسائل.
ويصف دونو جوهر أزمة النظام العالمي الجديد بما يسمية ( اللعبة) حيث يعتقد المنخرطون في دائرتها بأنهم أذكى من الجميع ،يستمتعون بترديد عبارات ( عليك ان تكسب اللعبة ) وهو تعبير للفكر التافه ..تلك اللعبة التي تجعل من المؤسسات الرصينة والجامعات أداة بيد أصحاب النفوذ والمال والشركات،ولم يعد الهدف العلمي المرموق هو القياس ، بل كمية الاستهلاك من منشورات ودرجات علمية وشبكات العلاقات الاجتماعية .
ويضرب دونو مثلا عن انحدار البحث العلمي الحر الخالص بتحول البحوث الجامعية في ارقى جامعات العالم الى بحوث تخدم عمل الشركات الصناعية الكبرى .
بعبارة اخرى يسير كل شيء نحو التبسيط والسطحية والتجهيل ، واضعاف الشخصية العامة مقابل شخصيات ملفقة تافهة مصابة بوهم المعرفة تبحث عن النجاح السهل والثروة والسلطة وتهدد المجتمع العام بالافكار والروايات والحكايات والانتقام وتحيطه بلغة خطابات جوفاء لاقيمة لها تصلح لكل زمان ومكان هوس بالشهادات العالية، فالعلم ليس هو الهدف ، الصحافة والثقافة المتردية تعنى بالاهتمام بالصغائر ونسيان المصالح العليا .على حد تعبيره.
فتبدو الشخصية المتميزة القوية في ظل نظام التفاهة على وفق رؤية دونو هي الشخصية البراغماتية المنحطّة التي تستفيد من معرفة سطحية بالأخبار العامة والدسائس في أوساط ذوي السلطة لاستغلال كلّ موقف .
وهي شخصية منعدمةُ القيم بمعنى أنها لاتجدُ حدوداً إجرائية للخوفِ من رادعٍ أو انضباطٍ أو قانون.بل تسعى لأنْ تستخدمَ ذكاءَها في انتاج أكبرِ مساحةٍ من العلاقاتِ العامة لتنفيذِ هذه الأغراض، وهي في التقدير العلمي شخصيةٌ تتوهمُ النجاحَ، لأنّ معاييرَ النجاحِ ضمنَ نظامِ التفاهة معاييرُ وضيعةٌ، كلما ابتعدتْ عن القيمِ العليا اقتربتْ من المحيطِ الملوّثِ الذي يحكمُ الدولةَ والمجتمعَ ويزكّيها للمواقعِ المتقدمة .
وفي هذا الصدد يرى المؤلفُ أنّ هناك خمسة انماط من الشخصية شائعة في ظلّ نظامِ التفاهةِ الذي استعرضَ سماته وأركانَه عبرَ الاستغلال الرأسمالي وأنظمة الشركات الحديثة والمجتمعات الرقمية المتنامية . .
النمط الاول – يأخذ نموذجَه من رواية بيير لوفير – وهي شخصية الكسير- ونظيره الرجلُ النائمُ، وهما نموذجٌ للشخصيةِ التي ترفضُ هكذا نظام بالانسحابِ منه .
الشخصيةُ الثانيةُ هي الشخصيةُ التافهةُ بطبيعتها، تصدّق مايروى لها من اكاذيب، ليس لها رأي، مطيعةٌ مستسلمةٌ، يفضلها ويحبها الايديولوجيون .
الشخصية الثالثة، هو الشخص التافه المتعصّب، يطلب المزيدَ دائماً، يُجيدُ الحِيَلَ جميعَها. كلّ همّهِ ازالةُ المنافسين، يصطفّ حيثُ تفرضُ الظروف .
الشخصية الرابعة هو التافه رغماً عنه ،لايهمّه سوى تنفيذِ عملِه والحصول على أجوره، وهو شخصيةٌ قلقة .
أما الشخصيةُ الخامسة، فهي من اولئك المندفعين الذين ينددّون بالسلطة سعياً لمنصبٍ أو دورٍ في هذا النظام .
ويضيف دونو أنّ انعدامَ القيم أو انحراف القياساتِ والمعايير يتحدّد معها مفهومان، القوةُ والتأثير، فتجد تراجعاً لذوي الخبرات الحقيقية والأكاديميين ورجالِ الفكر والقانون والسياسة العلمية الرصينة، مقابلَ عالمٍ من المشوّهين الذين يتقدمونَ المراكزَ العليا، ويتمتعونَ بمواصفاتِ القوّة تبعا للمعايير المنحرفة التي تسود المجتمع .
—-
ملاحظة : لم يستل المقال سوى ما مايتصل بالشخصية من الكتاب المركّب الثري الذي يفضح الانماط المجتمعية الحديثة والانظمة والشركات والتقنيات الجديدة ومؤسسات التسويق العالمية وصراع القوى الكبرى عبر الامثلة والتحليلات المعمقة ..الكتاب ( نظام التفاهة) تاليف الان دونو ، ترجمة مشاعل عبد العزيز الهاجري التي قدّمت للكتاب مقدمة رفيعة المستوى في ستين صفحة توازي جوهر ماورد الكتاب. اصدار دار سؤال بيروت 2020 – متوفر pdf

اترك رد