“ودارت الأيام”… مونودراما مسرحية تحكي أوجاع المرأة بلسانها!

منبر العراق الحر :

يراهن المسرح المصري الحديث في كثير من عروضه وصياغاته الجادة على ما هو إبداعي متفوّق من جانب أوّل، وعلى ما هو وظيفي لتمرير رسالة أو مجموعة رسائل من جانب ثانٍ.
يشمل الجانبُ الأول من هذه المعالجات المسرحية الواعية، منظومةَ العناصر والمفردات الجمالية المجرّدة، العصرية والمبتكرة، المميزة لطبيعة الفن المسرحي في ثيماته الجديدة، والساعية إلى الإدهاش والإمتاع والإبهار واجتذاب المتلقّي ونقله لاشعوريّاً إلى قلب الأحداث، كغاية ضرورية.
أما الجانب الثاني من تلك الأعمال المسرحية، فهو ما يتعلق بالدور أو الأدوار الأخرى المتعددة التي يضطلع بها “أبو الفنون”، فوق دوره الجمالي الأساسي الأول. ومنها الدور الاجتماعي، والسياسي، والانتقادي، والتوجيهي، وغيرها.
الاختيار الأصعب
وفي هذا السياق من الموازنة الدقيقة المحنّكة، بين تقنيات المسرح المتقدمة، ورسائله المهمّة في طرح القضايا النسوية والأسرية والاجتماعية، تأتي مونودراما “ودارت الأيام” (مسرح الهناجر في دار الأوبرا المصرية بالقاهرة)، من تأليف الكاتبة أمل فوزي، وإخراج فادي فوكيه، وبطولة وفاء الحكيم، وموسيقى أحمد الناصر، وإضاءة أبو بكر الشريف.
تستغرق مسرحية “ودارت الأيام” قرابة ساعة كاملة، ما يجعل شكل المونودراما هو الاختيار الأصعب، لاعتماد هذا الشكل التجريبي على ممثلة واحدة تنهض بالحوار وتسرد الأحداث وتبدّل وجهها وملامحها ومزاجها وملابسها مرة تلو أخرى طوال مدة العرض.
لكنّ صُنّاع العمل قبلوا التحدّي، ثقةً منهم بإمكانات بطلة العرض وفاء الحكيم وخبراتها المسرحية والفنية المتراكمة، وقدرتها على تنفيذ الرؤية الإخراجية والتشكيلية للمخضرم فادي فوكيه، وتجسيد النص البارع المحبوك بعناية للمؤلفة أمل فوزي، بما يفجّره من مفارقات وصراعات وإشكالات، وما ينطوي عليه من عذوبة وشاعرية وهشاشة إنسانية، في الوقت نفسه.
وقد أتقنت بطلة العرض فهمها وتقمّصها الشخصية المركّبة التي تلعبها، بحضور تلقائي مقنع، يخلو من المبالغة والافتعال، على مستوى الأداء الصوتي والإشاري والحركي. وجاءت انفعالات الشخصية معبّرة وموحية، بحساسية بالغة على طول الخط، ما يلائم المواقف المتنوعة والحالات الإنسانية المتناقضة والمتذبذبة، بين الأمل واليأس والبهجة والأسى والتوتر والقلق والندم والترقّب والسخرية، وغيرها.
لحظات مبعثرة
تقدّم المونودراما المسرحية الناضجة “ودارت الأيام” موضوعاً يبدو بسيطاً، يتلخّص في استيقاظ امرأة في منتصف العمر على حقيقة مُرّة، عقب وفاة زوجها، حيث تكتشف حال استخراج إعلام الوراثة أنّه متزوج من امرأة أخرى منذ عشر سنوات، وأنّه أنجب منها طفلاً.
تتمزق اللحظة الزمنية التي يدور فيها العرض المسرحي مع تمزّق أوصال المرأة نفسها، إذ تجد ذاتها نهب الذكرى والحسرة والتشتت والفزع والمشاعر السلبية كلها. وتستعيد الزوجة المصدومة أصداء الأيام الخوالي مع الزوج الذي تأكّد غدره وثبتت خيانته بعد وفاته، بعدما ظهرت أنانيته وقسوته وفظاظته في حياته.
وعلى أنغام أغنيات أم كلثوم العاطفية المؤثرة، ومقاطع متناثرة من كلماتها الدالة (ودارت الأيام، وصفوا لي الصبر، كنت باخلصلك في حبي بكل قلبي.. وإنت بتخون الوداد من كل قلبك، الله محبة، الخ)، وفق السياقات الدرامية، تسترجع الزوجة مشاهد ولقطات مأساوية كثيرة مبعثرة من حياتها الزوجية التعسة، تشهد على جبروت الزوج/الرجل/الرمز الذكوري، وطغيانه، وتعنّته في سائر تعاملاته مع الزوجة/المرأة/الرمز الأنثوي المقهور المنكسر.
وتمتد هذه الإساءات الواقعة على الزوجة من زوجها لتشكّل سائر تفاصيل علاقتهما المشتركة معاً، إلى جانب أخطائه أيضاً وسقطاته وتصرفاته السيئة في ما يخص معاملة أبنائهما.
وهنا، لا تجد الزوجة سوى مرآتها لتشكو إليها همومها، وتعيد النظر فيها إلى حقيقة ذاتها، أملاً في التخلص من الماضي الكئيب، وقراءة غدٍ أفضل.
وإلى جانب حزنها على ضياع أجمل سنوات العمر هباء، فإن الزوجة يفجعها أيضاً أنّها مصابة بالغفلة والعماية إلى درجة أنّها لا تكتشف أنّ حياتها الزوجية كلها أكذوبة كبرى، وأنّ زوجها (الذي لم تبق منه سوى صورة محنطة وملابس معلقة على الحائط) كان متورطاً في خداعها على هذا النحو.
إنّها لا تغار من الزوجة الأخرى، بقدر ما تلوم نفسها على ثقتها غير المبررة بزوجها، وبقدر ما تندم على عدم قدرتها على مواجهته في خطاياه المتتالية، مكتفية بالحزن وكتمان الغيظ أو توجيه الغضب صوب أبنائهما الأبرياء “لما ما تعرفيش تواجهي، بتواجهي مشاكلك بالغضب. الغضب ما بتعرفيش تطلعيه في وشه طول حياته، بتطلعيه في وش ولادك”.
القضية والقيمة
تتخذ مونودراما “ودارت الأيام” من هذه الحالة الفردية منطلقاً ومنصّة لمناقشة قضايا نسوية ومجتمعية وإنسانية متكررة، في مصر ومعظم البلدان العربية والشرقية، لتكون المسرحية عنواناً عريضاً لما هو أشمل وأعمّ.
فالمرأة في هذه الجغرافيات، على الأغلب، تعاني التهميش والتضييق والظلم والتمييز وإهدار الحقوق والخضوع لسلطة الرجل في الواقع الذكوري، وفي ظل الدساتير والقوانين والأعراف التي تضطهد النساء، وتهدر كرامتهن، وتسحق طموحهن، وتضعهن تحت الوصاية إلى أجل غير مسمّى.
وتوسّع المسرحية مجال تقصّيها إحباطات المرأة وإخفاقاتها، بالغوص في أعماقها، وكشف معاناتها الداخلية، والتقاط المسكوت عنه من جروحها الروحية ونزيفها الوجداني، وتتّبع الآهات الحبيسة في صدرها وضميرها، منذ أن تولد وتنشأ طفلة صغيرة مسلوبة الإرادة في بيت أبويها، إلى آخر لحظات حياتها المنزوعة النكهة والمذاق، وكأنّها ليست حياة “بيقولوا إني لسه عايشة!”.
ومع تحليلها هذه القضايا والأزمات بعمق وإنصاف، فإنّ مسرحية “ودارت الأيام” تنفتح على القيمة الفنية الخالصة، والجماليات والأبجديات المسرحية المتطورة.
فمن خلال الشكل المونودرامي، ينجح فريق العمل في تقديم توليفة متجانسة ومتشابكة من العناصر المسرحية المنسجمة.
ويقود هذا الفريق مخرج ومصمم ديكور قادر على ملء الفراغ دائماً بالحركة، رغم أنّ المسرح يضمّ ممثلة واحدة، إلى جانب ملء المسرح بقطع الأثاث، والستائر، والملابس المعلقة، والمرايا، والصور، والبراويز الخالية (وكأنّها ذاكرة مثقوبة).
أما الموسيقى، التي تتقاطع مع أنغام أغنيات أم كلثوم وبعض عباراتها الشهيرة المغنّاة، فتشكّل في مجملها صوتاً موازياً لصوت الزوجة الداخلي، في أقصى عُمقها الذبيح بسكين باردة.
وهذه الدفقات الغنائية والموسيقية هي أيضاً بمثابة ظلال متعددة تثري حضور الممثلة الواحدة، التي تبدّل وجوهها وأقنعتها بمهارة وسرعة، وتتنقل من حالة شعورية إلى أخرى بخفة البرق، كما تمتلك قدرات فائقة في التعبير الجسدي.
وتُغلّف هذا الهارموني الفني الشفيف، إضاءة انسيابية ذكية، تتنوع بين السطوع والخفوت، واللمعان والشحوب، بتنوع المواقف والمشاهد الدرامية، والأجواء النفسية. وهكذا، تبدو مصابيح الإضاءة وكأنّها تكاد تتصل بالشمعة التي يتأرجح لهبها وهي تحترق وتذوب ببطء في جوف الزوجة، بطلة العرض.
المصدر: القاهرة- النهار العربي
شريف الشافعي

اترك رد