منبر العراق الحر :

“لم نستوعب أنه استشهد. لا يزال عقلي يرفض تصديق ذلك، وأفكر بيني وبين نفسي في أنه ما يزال على قيد الحياة، وأن الاحتلال يعقابنا ويتلاعب بنا”. بهذه الكلمات تختصر ياسمين حمادة، زوجة الدكتور عدنان البرش، وقع الفاجعة التي تصفها بـالكارثة الكبرى والصدمة المزلزلة التي حلّت بعائلتها.
تستعيد آخر مكالمة معه عندما كان يعمل في مستشفى العودة، في 17 كانون الأول/ديسمبر، قبل يوم واحد من اعتقاله.تستذكر قائلة: “يومها، نادى الاحتلال بالأسماء الأطباء والممرضين ممن هم دون سن الـ 45، فشعرتُ بالارتياح لأنه يبلغ 49 عاماً، واعتقدت أنهم لن يأخذوه. لكنه في صباح اليوم التالي اتصل بي ليخبرني بأن الاحتلال ناداه بالاسم، وهدده بقصف المستشفى إن لم يستجب. ودّعني بتلك العبارة “استودعتكِ الله، اعتني بالأولاد وبنفسك”، كلماتُه الأخيرة ما زالت حاضرة في ذهني حتى اليوم”.
في 18 كانون الأول/ديسمبر 2024، اعتُقل الدكتور عدنان البرش، ومنذ تلك اللحظة انقطعت أخباره تماماً. بدأت عائلته رحلة شاقة للبحث عن أي معلومة عنه، لكن الاحتلال أبقى مصيره مجهولاً. لم تعرف زوجته ياسمين حمادة أي تفاصيل عن حاله حتى خرج بعض الأسرى الذين كشفوا عن تعرضه لتعذيب وحشي، وعن حرمانه من النوم والطعام.
تؤكد ياسمين، وفق شهادات الأسرى، أن زوجها كان أكثر طبيب عذّبوه بشكل منهجي في داخل المعتقل. كانوا ينادونه باستهزاء “عدنان، أين أنت؟ ألم تشتق إلينا؟ هيا إلى غرفة التحقيق!”، حيث يخضع لجولات متكررة من الضرب العنيف والاستجوابات القاسية”.
الدكتور عدنان البرش الذي استشهد داخل السجن.
الدكتور عدنان استشهد تحت التعذيب
منذ اليوم الرابع لاعتقاله، سعت زوجته ياسمين حمادة جاهدةً لمعرفة مصيره، فكلفت محامياً للاستفسار عن التهمة الموجهة إليه، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي منع أي تواصل معه، وأبقاه قيد الاعتقال الإداري لمدة 45 يوماً، وحرمه رؤية أيّ محامٍ لمدّة 90 يوماً. لم تصل أيّ معلومات عنه، ولم تعرف العائلة بمكانه إلا بفضل الأسرى المحرّرين.
في نيسان، نُقل الدكتور عدنان البرش من سجن “كيشون” إلى سجن “عوفر”، حيث تعرض للضرب المبرح طوال الطريق. تروي زوجته أنه “عند وصوله إلى الزنزانة، دخل أحد الحراس إليه ونزع “الجنزير بقوة عن قدميه مما أدى إلى ارتطام رأسه بالأرض بقوة والتسبب بنزف حادّ أدّى إلى استشهاده”.
لم يخطر ببال عائلة الدكتور عدنان البرش أن تتلقى نبأ استشهاده تحت التعذيب، ولم يكن في حسبانه أن اعتقاله سينتهي بمقتله. لكن ما لم يكن متوقعاً حدث، ليُضاف اسمه إلى قائمة الشهداء الذين قضوا في سجون الاحتلال تحت وطأة التعذيب الممنهج.
تسعى زوجته ياسمين حمادة اليوم إلى رفع دعوى قانونية على خلفية الجرائم التي تعرض لها زوجها والأسرى الآخرون، مطالبةً بمحاسبة الاحتلال الاسرائيلي على انتهاكاته. وتؤكد أن “على إسرائيل الالتزام بالقوانين الدولية، واحترام الطواقم الطبية، وعدم انتهاك حقوق الأسرى. لكن للأسف، الاحتلال محصّن دولياً ومدعوم عربياً، ولم تتواصل معي أي جهة حقوقية لتبني قضية مقتل زوجي أو مقاضاة إسرائيل على جرائمها”.
“لا تسمحوا بأن يذهب دم زوجي هباء”
تخشى ياسمين أن تلقى قضية زوجها عدنان البرش المصير نفسه الذي واجهته مئات الملفات المنسية، حيث لا تزال جثامين العديد من الشهداء محتجزة لدى الاحتلال، مما يحرم عائلاتهم من وداعهم ودفنهم بكرامة. وتعبر عن قلقها قائلةً “أخشى أن يُدفن عدنان في مقبرة الأرقام، وأن يُحرم من المثوى الذي أوصى به، إلى جانب والدته. هذا عقاب مزدوج، له ولنا كعائلة. لم نودّعه، وما زال محتجزاً حتى في مماته”.
بدموعها التي لم تجف، تقول “نفسي أحضنه، حتى وهو مُستشهدٌ… الشوق يقتلنا. لم نشبع منه، فقد كان غائباً عنا طوال الحرب، ولم نره إلا نادراً”.
وتختتم رسالتها بنداء يفيض بالألم “أرجوكم، لا تسمحوا بأن يذهب دم زوجي هباءً. كونوا صوتاً للعدالة، وأثبتوا أن للإنسانية قيمة في هذا العالم. ذكرى عدنان وما حدث له يجب أن تكون دافعاً للتغيير، لا مجرد قصة تُروى ثم تُنسى”.
مشاهد النزوح في غزة بعد تجدد القصف. (18 آذار/مارس – أ ف ب)
1800 معتقل مدني في قطاع غزة
يواصل مركز الميزان لحقوق الإنسان متابعة قضية الدكتور حسام أبو صفية وسائر الأطباء المعتقلين في سجون الاحتلال، الذين يتعرضون لأبشع أشكال التعذيب والانتهاكات وسوء المعاملة. وما يملكه مركز الميزان من ملفات ليس سوى عينة محدودة تعكس جانباً من الواقع المأسوي الذي يعيشه المعتقلون. فبينما وُثّقت بعض الشهادات، ظلّت انتهاكات أخرى طيّ الكتمان، ودُفنت معها معاناة الذين فارقوا الحياة أثناء جلسات التعذيب والتحقيق.
وفي ظل غياب إحصاءات رسمية، لا تتوفر أرقام دقيقة عن عدد المعتقلين الذين قضوا داخل سجون الاحتلال، أو عن إجمالي عدد المعتقلين، سواء أكانوا من المدنيين أم من الكوادر الطبية. ومع ذلك، يقدّر مركز الميزان وجود نحو 1800 معتقل مدني من قطاع غزة، وُجّهت إليهم جميعًا تهمة “مقاتل غير شرعي”.
الدكتور محمد أبو سليمة مدير مجمع الشفاء الطبي.
الدكتور أبو سلمية ورحلة التعذيب الوحشي
يستعيد الطبيب محمد أبو سلمية، مدير مستشفى الشفاء في غزة، في حديثه لـ”النهار”، تفاصيل اعتقاله المرير بعد إطلاق سراحه إثر ستة أشهر من الاحتجاز. رغم الحصار الذي فرضته القوات الإسرائيلية لمدة أسبوعين، وقطع الماء والكهرباء، رفض مغادرة مرضاه، حتى تحوّل المستشفى “مقبرة جماعية”.
في 22 تشرين الثاني/نوفمبر، أجبرهم الاحتلال على الإخلاء نحو مستشفى غزة الأوروبي. وبعد تسع ساعات من التحقيق على الحاجز، اعتُقل تحت تهليل الجنود الذين اعتبروه “صيداً ثميناً”. يتابع “تقدمتُ للتعريف عن نفسي، وما إن نطقت باسمي حتى وجدت الأسلحة مصوبة نحوي، كأنهم كانوا ينتظرونني”.
منذ لحظة اعتقاله، بدأ مسلسل التعذيب والإهانات، حيث تعرض للضرب المبرح بالأسلحة والأيدي، وأُجبر على ابتلاع التراب الذي وُضع في فمه وعلى رأسه، وهو مكبّل اليدين والقدمين ومعصوب العينين. بالنسبة للجيش الإسرائيلي، كان اعتقاله بمثابة “صيد ثمين”، إذ علت أصوات الجنود هاتفين بفرح: “لقد اعتقلنا مدير مجمع الشفاء الطبي”.
الدكتور محمد أبو سليمة قبل الاعتقال.
نُقل الدكتور محمد أبو سلمية، مع أكثر من 50 شخصاً، في شاحنة إلى سجن عسقلان، حيث وُضع في زنزانة انفرادية وسط ظروف قاسية للغاية. ويستعيد تفاصيل تلك المرحلة قائلاً “كانوا يشغّلون المكيّفات الباردة كوسيلة تعذيب، قبل أن نمرّ بفصول أخرى من الانتهاكات خلال جلسات التحقيق، التي استمرت لأكثر من أسبوعين على يد المخابرات الإسرائيلية”.
لم يكن التعذيب عشوائياً، بل كان ممنهجاً ومتعدد الأشكال. يؤكد أبو سلمية أن المعتقلين مُنعوا من النوم لأكثر من 18 ساعة يومياً، وتعرضوا للضرب والإهانات المستمرة. ويقول “لم يقتصر التعذيب على الأذى الجسدي، بل لجأوا أيضاً إلى الحرب النفسية، مهددين بقتل عائلاتنا في جنوبي غزة، بل لم يترددوا بإبلاغي صراحةً: “سنقتلك كما قتلنا الدكتور إياد الرنتيسي، الذي استشهد سابقاً”.
خلال فترة التحقيقات، اختبر الدكتور محمد أبو سلمية أقسى أنواع التعذيب على مدار الساعة. لكن أكثر ما بقي راسخاً في ذاكرته، على ما يقول، هو “مشاهد المعتقلين الجرحى الذين تُركت جروحهم من دون علاج حتى تعفّنت وخرجت منها الديدان، فيما حُرموا تماماً من أي رعاية طبية، بل حتى نحن، كأطباء، مُنعنا من تقديم أي مساعدة لهم”.
من سجن عسقلان إلى سجن عوفر سيئ السمعة، كانت رحلة من العنف الوحشي، إذ تعرض خلالها لكسور في أربعة أضلع، وجروح في رأسه، ونزف في عينه. يصف تلك المرحلة بالقول “كانت معاملة الطواقم الطبية في سجن عوفر مروّعة، كأنهم ينتقمون منا”.
ويؤكد أبو سلمية أن نحو 350 معتقلاً من الطواقم الطبية لا يزالون يقبعون في السجون الإسرائيلية، فيما استشهد أربعة منهم في داخل المعتقلات. ويُعرب عن استغرابه الشديد قائلاً “للأسف، لم تحرك أي منظمة حقوقية ساكناً تجاه ما نتعرض له، رغم أننا اعتُقلنا تحت مظلّة الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية. وهذا يطرح علامات استفهام كبرى حول دور هذه المنظمات الدولية في التعامل مع قضية الأسرى الفلسطينيين، بخاصة أفراد الطواقم الطبية، الذين يفترض بالقانون الدولي أن يحميهم”.
وعن الجدل والانقسام الإسرائيلي الذي رافق قرار إطلاق سراحه، يقول أبو سلمية إن ذلك كان “رسالة سياسية بعد فشل القوات الإسرائيلية في إثبات أن مجمع الشفاء الطبي كان مركزاً عسكرياً لعناصر المقاومة. وبالتالي، أصبح اعتقالي غير مبرر. وللتخفيف من وطأة الغضب الداخلي، تم الإفراج عني”.
نزوح الأهالي من قطاع غزة بعد تجدد القصف فجر اليوم. (18 آذار/مارس – أ ف ب)
وفق شهادات الأطباء والمحامين، يتعرض المعتقلون في سجون الاحتلال لسياسة تجويع وتعذيب ممنهجة أدت إلى خسارة كل فرد ما بين 30 إلى 50 كيلوغراماً من وزنه.
خمسون شخصاً فقدوا حياتهم بسبب التعذيب
يرى مركز “الميزان” لحقوق الإنسان أن تصنيف أي معتقل على أنه مقاتل غير شرعي إجراء تعسفي وغير قانوني، ينتهك الحقوق الأساسية، ويُستخدم كأداة انتقامية، بخاصة في ظل عجز النيابة العامة عن تقديم أدلة قانونية تدعم مزاعمها.
ويؤكد المركز أن تطبيق هذا التصنيف، لا سيما على المدنيين والأطباء، يُعد انتهاكاً صارخاً لضمانات المحاكمة العادلة، حيث يُحرم المعتقل من معرفة التهم الموجهة إليه أو الدفاع عن نفسه، وفقًا لمبادئ القانون الدولي.
وتحذّر المحامية ميرفت النحال من التداعيات الخطيرة لمثل هذه السياسات، مشيرةً إلى أن التعذيب وسوء المعاملة أثناء التحقيق أديا في حالات سابقة إلى وفاة عدد من الأطباء المعتقلين، بينهم الطبيب عدنان البرش، الذي فارق الحياة تحت التعذيب في سجون الاحتلال.
إلى جانب البرش، وثّق مركز “الميزان” وفاة الطبيب إياد الرنتيسي، والدكتور زياد الدلو تحت التعذيب، إضافةً إلى عدد من المدنيين الذين لقوا حتفهم أثناء احتجازهم في سجون الاحتلال. ورغم غياب إحصاءات دقيقة نتيجة تعتيم سلطات الاحتلال وإدارة مصلحة السجون على هذه الانتهاكات، تشير المعلومات المتاحة إلى أن ما لا يقل عن خمسين شخصاً فقدوا حياتهم بسبب التعذيب في سجون الاحتلال.
الدكتور أبو عجوة: سبعة أشهر من أصعب أيام حياتي
يروي استشاري الجراحة العامة عصام أبو عجوة، الذي عمل في وزارة الصحة الفلسطينية منذ بداية الحرب حتى اعتقاله، تفاصيل حصار القوات الإسرائيلية للمستشفى المعمداني قبل اعتقاله في 17 كانون الأول/ديسمبر 2023.
يستعيد تلك اللحظات قائلاً “كنتُ أجري عملية جراحية في بطن أحد المصابين حين اقتحمت القوات الخاصة الإسرائيلية غرفة العمليات واعتقلتني. كانت الساعات السبعة عشرة الأولى هي الأصعب، لأننا لم نكن نعلم سبب اعتقالنا كأطباء. كنا مكبّلي الأيدي والأرجل، معصوبي الأعين، ولا نعرف أين نحن. لكنني اعتقدت أننا في منطقة حدودية، إذ مكثنا في حفرة رملية قرب شاطئ البحر لمدة 17 ساعة، من دون ملابس، تحت البرد القارس”.
استشاري الجراحة العامة عصام أبو عجوة.
نُقل الطبيب عصام أبو عجوة إلى سجن “سيدي تيمان”، حيث بدأت، على ما يقول، “المرحلة الأشد قسوة، إذ اختبرنا أقسى العذابات والانتهاكات وسط ظروف قاسية للغاية. كانوا يوقظوننا عند الخامسة فجراً، ونظل واقفين حتى منتصف الليل، ثم نُنقل إلى التحقيق في داخل ما يسمى “مركز الموسيقى، وهي حجرة أرضيتها مغطاة بأكوام من الحجارة الحادة. كنا مكبلي الأيدي والأرجل، معصوبي الأعين، يُرش علينا الماء البارد، ثم يوجهون نحونا أجهزة التبريد، مع تشغيل موسيقى صاخبة على مدار الساعة”.
كل أساليب التعذيب كانت موجودة، الشتم، الضرب والتنكيل. ويصعب عليه أن ينسى “كيف كانوا يعلقوننا بالسقف ووجوهنا إلى الأسفل لساعات. نشعر كأنّ أطناناً من الحديد معلّقة على أكتافنا، بينما نتلقّى الضرب على كل أنحاء الجسد. وفي بعض الأحيان، لم يكن هناك تحقيق، بل تعذيب مستمر فقط؛ وأحياناً أخرى كنا نُسأل عن اتهامات عشوائية لا أساس لها”.
الدكتور عصام أبو عجوة أمام مركز البركة الطبي.
لم يكن التعذيب مقتصراً على الضرب فحسب، إنما شمل التجويع والحرمان من النوم. يقول أبو عجوة “بقيت 14 يوماً من دون أن تدخل إلى جوفي أي نقطة ماء أو قطعة خبز. كانت هذه سياسة ممنهجة لإضعافنا نفسياً وجسدياً. فقدتُ 44 كيلوغراماً من وزني، وتعرضتُ لضرب شديد كسر أسناني. كذلك مُنعت من الاستحمام وبقيت بالملابس ذاتها طوال فترة اعتقالي التي استمرت سبعة أشهر”.
برأيه “لم يكن هدفهم الحصول على أي معلومة، بل كان التعذيب هو الغاية بذاتها. أنا مريض ضغط وصدفية، ومع ذلك لم يسمحوا لي بتناول أي دواء. لم أتوقع إطلاق سراحي أبداً. لم نكن نعرف شيئاً عن مصيرنا، ولم يُسمح لنا بتوكيل محامٍ. كان كل شيء مستباحاً”.
الدكتور عصام أبو عجوة وسط دمار غزة.
يختصر الدكتور أبو عجوة فترة اعتقاله بهذه العبارة. “كانت الأشهر السبعة من أصعب أيام حياتي. جميع المعتقلين كانوا من المثقفين وأصحاب الاختصاص، ومعظمهم من كبار السن. كان واضحاً أن الاحتلال يستهدف الطواقم الطبية لضرب المنظومة الصحية وتفريغ غزة من كوادرها”.
ويضيف بأسى “استشهد الكثير في داخل السجون، لكن الإعلام لم يكن على دراية بما يحدث في زنازين الاحتلال، إلا عندما خرج بعض الأسرى ليكشفوا عن حجم المعاناة والانتهاكات”.
قضية الطبيب حسام أبو صفية
في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2024، اعتُقل الطبيب حسام أبو صفية أثناء تأديته واجبه الطبي في مستشفى كمال عدوان، حيث كان يتولّى إدارته، إلى جانب عمله كطبيب. وجاء اعتقاله في مشهد يعكس الاقتحامات المتكررة التي ينفذها الاحتلال الإسرائيلي بحق الكوادر الطبية في مستشفيات غزة. فبين غرف العمليات، وبين الجرحى والشهداء، أقدم الاحتلال على اعتقال عدد من الأطباء واقتيادهم إلى وجهات مجهولة، تاركاً مصائرهم مفتوحة على جميع الاحتمالات.
وبحسب مركز الميزان، نُقل أبو صفية إلى سجن “سيدي تيمان”، حيث صدر قرار بمنع لقائه بمحامٍ لمدة 47 يوماً. وبعد جهود قانونية حثيثة، تمكن محاميه أخيراً من زيارته للمرة الأولى في سجن عوفر بتاريخ 11 شباط/فبراير 2025.
وراء قضبان سجن عوفر، ينتظر الطبيب حسام أبو صفية في غرفته ذات الرقم 2، ضمن القسم 24، قرار الإفراج عنه. يحدوه الأمل في أن تتحرك المجتمعات الدولية للمطالبة باحترام القوانين الدولية التي تكفل حماية العاملين في القطاع الصحي وتصون حقوقهم من الانتهاك، وإن كان ما تنصّ عليه الاتفاقيات الدولية يبدو بعيداً كلّ البعد عن الواقع، حيث تتواصل الانتهاكات في داخل سجون الاحتلال في ظل صمت عالمي مريب.
كشفت زيارة المحامي التابع لمركز الميزان عن جانب ممّا يسعى الجيش الإسرائيلي إلى إخفائه، حيث أكّد تعرض الطبيب أبو صفية للتعذيب بوضوح. وأفاد المحامي في تقريره بأن أبو صفية يعاني انخفاضاً في الوزن، إذ فقد 12 كيلوغراماً، بعد أن كان وزنه 96 كيلوغراماً ثم انخفض إلى 84 كيلوغراماً، ممّا يشير إلى تعرّضه لسوء تغذية. وأكّد عددٌ من المعتقلين، سواء من الأطباء أم من المدنيين من قطاع غزة، أن سلطات الاحتلال تتبع سياسة التجويع كأحد أساليب العقاب، إلى جانب الإهمال الطبيّ المتعمّد، الذي يزيد من معاناة الأسرى ويشكّل تهديداً مباشراً لحياتهم.
الدكتور حسام أبو صفية.
وفي هذا السياق، أكد الدكتور حسام أبو صفية، خلال حديثه إلى محاميه، أنه يعاني من تضخّم في عضلة القلب نتيجة إصابته بارتفاع ضغط الدم المزمن. وتفاقمت حالته بسبب منعه من تناول أدويته الخاصّة. ورغم تقديمه طلباً لمعاينة طبية من قبل طبيب مختص لتقييم وضعه الصحي، قوبل طلبه بالرفض من قِبل إدارة السجن، في انتهاك صارخ لحقوقه الصحية.
أما عن سوء المعاملة وأساليب التعذيب التي تعرض لها، فقال أبو صفية لمحاميه إنه فور اعتقاله أُجبر على نزع جميع ملابسه، وتُرك في العراء على حصى مدبّبة، حيث ظلّ محتجزاً هناك لمدّة تقارب الخمس ساعات. وبعد نقله، تعرض للضرب بعصا كهربائية، حيث وُجهت الضربات بشكل متعمد إلى منطقة الصّدر.
وقد أمضى الدكتور حسام أبو صفية 25 يوماً في الزنزانة، حيث تعرض لنوبة اختناق شديدة أدت إلى فقدانه الوعي. وقد أعرب مركز الميزان لحقوق الإنسان عن مخاوفه إزاء تعرضه للتعذيب. وقد تعزّزت المخاوف أكثر مع استمرار أوامر المنع المتكرّرة التي حالت دون رؤيته لمدة 47 يوماً.
ولكن ماذا عن وضعه القانوني؟ توضح المحامية ميرفت النحال بأن الوضع القانوني للدكتور حسام أبو صفية يخضع لما يُعرف بتصنيف “المقاتل غير الشرعي”، وهو إجراء يستخدمه الاحتلال الإسرائيلي لاحتجاز الأفراد من دون تهم محدّدة أو محاكمة عادلة.
ففي 11 شباط/ فبراير 2025، أصدر القائد العسكري في الجيش الإسرائيلي أمراً يقضي بتحويل الدكتور أبو صفية إلى “مقاتل غير شرعي”، وهو تصنيف يظل ساري المفعول لمدة 45 يوماً. بعدها، يتم عرض المعتقل على المحكمة المركزية في بئر السبع، التي تصادق على القرار وتمدّد فترة الاعتقال لمدة 6 أشهر قابلة للتجديد إلى أجل غير مسمّى، من دون الحاجة إلى توجيه تهم رسمية أو تقديم أدلة قانونية.
وتشير النحال إلى أن هذا القانون يُعد وجهاً آخر للتوقيف الإداري، إذ يُحتجز المعتقل بذريعة تشكيله خطراً على أمن إسرائيل، من دون محاكمة عادلة أو إثباتات قانونية واضحة، مما يجعله عرضة للاعتقال التعسفي لفترات غير محدودة، في انتهاك صارخ للحقوق الأساسية والضمانات القانونية.
نزوح الأهالي من قطاع غزة بعد تجدد القصف فجر اليوم. (18 آذار/مارس – أ ف ب)
قانون “المقاتل غير الشرعي”
وترى المحامية ميرفت النحال أن قانون “المقاتل غير الشرعي”، الذي تطبّقه قوات الاحتلال الإسرائيلي على المدنيين، يمثّل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، لا سيما القواعد الخاصة بحماية الطواقم الطبية الواردة في البروتوكول الثاني المكمّل لاتفاقية جنيف الرابعة. واستناداً إلى ذلك، تستمر المطالبات بالإفراج الفوري عن جميع المدنيين والطواقم الطبية الذين اعتقلوا بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر من دون توجيه أيّ تهم محدّدة إليهم.
أما على المستوى الدولي، فتتضافر الجهود من خلال تعاون مشترك بين مؤسسات دولية لتقديم شكاوى إلى آليات الأمم المتحدة والمقررين الخاصين المعنيين بـالاعتقال التعسفي والاختفاء القسري.
وتشير الوقائع إلى أن عدداً من المعتقلين، بمن فيهم الطبيب حسام أبو صفية، تعرضوا للاختفاء القسري في الأيام الأولى من اعتقالهم، حيث بقيت مصائرهم مجهولة لنحو عشرة أيام قبل الكشف عن أماكن احتجازهم. ويؤكد هذا الأمر أن جريمة الاختفاء القسري تُضاف إلى قائمة الانتهاكات التي تشمل التعذيب والاعتقال التعسفي تحت ذريعة “المقاتل غير الشرعي”.
وتشير المحامية ميرفت النحال إلى أن من بين الحالات التي يتابعها مركز الميزان قضية الطبيب أحمد شحادة، اختصاصي القلب والأوعية الدموية في مستشفى ناصر الطبي بخان يونس. فقد تم اعتقاله في 17 شباط/فبراير 2024 أثناء تأدية عمله، وتعرض للاختفاء القسري، حيث مُنع من التواصل مع محاميه. وبعد تسعة أشهر من الاعتقال، تمكن المحامي أخيراً من زيارته في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 في سجن النقب، حيث لا يزال محتجزاً حتى اليوم.
يعاني الطبيب شحاتة من نقص حاد في الوزن، إضافةً إلى أمراض جلدية ناجمة عن انعدام النظافة وسوء بيئة الاحتجاز، إذ يُمنع المعتقلون من الاستحمام ويخضعون لإجراءات تعسفية ممنهجة. وكشفت التحقيقات عن تعرضه للتعذيب خلال الاستجواب، بينما لا يزال محتجزاً بموجب التصنيف “مقاتل غير شرعي”. ولا يزال يقبع في سجن النقب في ظروف غير إنسانية، حيث تُمارَس بحقه انتهاكات جسيمة وجرائم منظمة مشابهة لتلك التي ترتكب في سجون الاحتلال الأخرى.
وتظل الصرخة مدوية اليوم، في ظل الصمت الدولي المريب، مطالِبةً بإطلاق سراح جميع الأسرى والمدنيين من السجون الإسرائيلية. فهل هناك من يجرؤ على محاسبة إسرائيل على جرائمها؟