نكتٌ عابرة تُخرج من سحائبها ودق الذاكرة…د. نضير الخزرجي

منبر العراق الحر :

ما بين عامي 1980م و1993م، فترة زمنية غير قصيرة امتدت على مساحة الهجرة القسرية التي قادتني الى بلدان سوريا وإيران وتركيا والمملكة المتحدة، بين السنين الثلاث عشرة كان الإنقطاع القسري عن مواصلة الدراسة الجامعية، سنين قضيناها ما بين العمل السياسي والعمل الصحافي والإعلامي والثقافي، حتى تبرعمت من جديد فكرة مواصلة الدراسة الجامعية رغم مصاعب الهجرة مع أسرة صغيرة يتطلب من راعيها العمل اليومي واكتساب المعاش إلى جانب النشاطات المتفرقة التي هي من صلب نشاط مهاجر معارض، كانت العزيمة الذاتية المسددة بالتوفيق الرباني بإذن الله، القارب الذي أخذني إلى ضفة الدراسة الجامعية ملتحقاً بكلية الشريعة في الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية في لندن.
وبحكم الغربة والهجرة كان الطلبة من جنسيات مختلفة ومن مذاهب مختلفة وإن كان العنوان العام الذي جمعنا هو دراسة العلوم الإسلامية، وهذا العالم الجديد من الدراسة عام 1993م في لندن محل الإقامة يختلف عما قد تركته عام 1980م في كربلاء المقدسة مسقط الرأس عندما انهيت دراسة البكالوريا في وسط طلابي متقارب الأعمار والجنس والمدينة والجنسية، ولعل من أهم مقومات الدراسة الجامعية في هذه الكلية هي الحرية في مناقشة ما يقدمه الأستاذ المحاضر من دروس، حرية لم نعهدها في مرحلة الدراسة الإعدادية القائمة على التلقي والقليل من المناقشة، لكن في المرحلة الجامعية يكاد تتناصف المناقشة وقت المحاضرة.
ومن جميل ما حظينا، مجموعة من الأساتذة المرموقين، وكان درس الفقه من الدروس المحببة لي، فكان المحاضر هو الفقيه آية الله الشيخ محمد باقر الإيرواني، وهو من كبار الأساتذة في الفقه الإسلامي وأصوله، وأما المناقش فهو الدكتور عبد الهادي الحكيم النائب السابق في مجلس النواب العراقي وعضو لجنة كتاب الدستور العراقي بعد عام 2003م، ومن سمات الحصة الدراسية أن المناقشة في المسائل الفقهية مفتوحة لكل الطلبة مع اختلاف جنسياتهم ومذاهبهم، فكان بيننا الشيعي الإمامي والسني الحنفي والشيعي الزيدي، مع تنوع في تقليد المجتهد الجامع للشرائط على مستوى المذهب الواحد.
وذات يوم طلب منا أستاذنا الفاضل أن يقوم كل طالب وطالبة بمناقشة مسألة فقهية عرضها المحاضر الشيخ الإيرواني رجوعاً إلى ما في الرسالة العملية لكل فقيه مجتهد يرجع إليه الطالب في تقليده المذهبي أو الفقهي، وعندما وصل الدور لي استفرغت في المسألة حقها من الشرح بناءً على ما في ذاكرتي لرأي مرجع التقليد الراحل السيد محمد الشيرازي (1347- 1422هـ = 1925- 2001م)، وما أن انتهى الدرس حتى انتابني إحساس غريب بأني ربما أخطأت في عرض الرأي الفقهي، فعدت إلى البيت وتصفحت المسألة فوجدت نفسي قد أخطأت في اتجاه بوصلة المراد، ولما حان الدرس التالي في يوم آخر، وجدت نفسي بين كماشتي صراع داخلي، بين أن أقوم وأصحح ما ذكرته في الدرس السابق وعلى رؤوس الأشهاد معترفاً بجهلي بالمسألة وخطئي، وبين أن أكتم وأخون أمانة البحث والمناقشة، فلعنت في داخلي شيطاني ورفعت يدي مستأذنا بالحديث وقدمت لأستاذنا الحكيم والطلبة اعتذاري عما بدر مني من شرح خاطئ، وما أن انتهيت من صحيح الشرح واقفاً وعدت إلى مقعدي جالسا حتى تسللت إلى أضلع صدري نسائم السلام والطمأنينة وانتصاري على النفس الأمارة التي كانت تدعوني إلى السكوت السلبي، مع شكر وامتنان تلقيته من لدن أستاذنا لحسن الفعل والصنيع.

نكتٌ عابرة مثمرة
تداعت إلى ذاكرتي المعطوبة بفعل تقلبات الحياة ومصاعبها، هذه الحادثة وأنا أتصفح كتاب “النكت العابرة لتقوية الذاكرة” للفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، الصادر في بيروت حديثا (2025م) عن بيت العلم للنابهين في 120 صفحة من القطع المتوسط الذي يتناول في جانب كبير منه آداب السؤال والجواب، حيث أوقفني الحديث المروي عن الإمام علي عليه السلام: “أبردها على كبدي أن يسأل الرجل عمّا لا يعلم فيقول: ألله أعلم”، فكيف إذا أخطأ المجيب في الإجابة عن غير قصد، فإن الواجب المعرفي يستدعي تصحيح الخطأ حتى يُخلي المرء مسؤوليته العلمية ولا يبوء بوزره ووزر من استمع إليه أو عمل بما استمع أو قرأ.
النكت العابرة هي في واقعها مائة نكتة أو سؤال عرضها المؤلف على القارئ وأجاب عليها بشيء من التوضيح المفيد، وهي نماذج من آلاف الأسئلة تجمعت في جعبة المؤلف على مدار ثمانية عقود من الإبحار في محيطات العلوم والمعارف المختلفة، قدّمها كروضة من بستان المعرفة هدف منها تقوية ذاكرة المتلقي، وهي في الوقت نفسه ترويح عن النفس، لأن الأسئلة جمعت حقولاً عدة من المعارف تنطوي الكثير منها على حكم ذات فائدة عميقة في حياة الإنسان، وهي رياضة روحية ونفسية وعقلية، فضلاً عن الترويح عملاً بوصية خاتم الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وآله وسلّم: “إنَّ هذه القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدان، فاهدوا إليها طرائف الحِكم”، ومثلها قول إمام البلاغة والكلام علي بن أبي طالب عليه السلام: “إنَّ هذه القلوب تملُّ كما تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكم”.
وربما توقف الناطق بالعربية قليلاً عند كلمة “النكتة” التي يرى البعض أنها من المفردات الأجنبية الواردة على اللغة العربية، لكن المحقق الكرباسي يتناول المفردة بشيء من التفصيل ليخلص بأنها مفردة عربية: (فالنُّكتة بضم الفاء وسكون الكاف ثم فتح التاء وانتهاءً بتاء مربوطة التي هي تاء المرَّة أو الوحدة أو التي تأتي لتميّز الواحد من الجنس نحو شجرة، واحدة الشَّجَر، وتُجمع على نُكَتْ ونكات، وقد وردت المفردة من الثلاثي المجرَّدة نَكَتَ يَنْكُتُ بفتحتين في الماضي وضم الكاف في المضارع ومصدره النَّكْت بفتح النون وسكون الكاف وعليه فإن النكتة إسم مصدر، ومن معانيها التي نحن بصددها هنا المسألة الدقيقة التي أُخرجت بدقة نظر وإمعان فكر، أو هي الجملة اللطيفة التي تؤثر في النفس انبساطاً، والنَّكّات هو الذي يأتي بالنُّكَت).
وقد رمى البعض المفردة في مرمى اللغة الفارسية وأرجعها إلى شباكهم، لكن المعاجم الفارسية نفسها عكست الأمر كما يستشهد المؤلف ببعضها حيث أبانت بأنها: (عربية دخيلة على اللغة الفارسية، وتعني عندهم المسألة الدقيقة، أو الإشارة الدقيقة)، وهذا الوصف هو من مصاديق المفردة ومخرجاتها في الأدب العربي، وبتعبير الأديب العراقي طالب عباس الظاهر الذي قدَّم للكتاب: (النكتة ترادفها في اللغة: اللطيفة والنادرة والمفارقة وغيرها، وربما أجمل ما فيها هو ما تحتويه من جمال وتكثيف في اختزال المعنى البليغ الطرح الحكيم معا، خاصة من بعد انكشاف المغزى النهائي لمثل هذه النكتة أو تلك من النكات من خلال إيرادها في الكتابة أو الكلام، وحسب المقام الذي ترد فيه وتنطبق عليه، فتكون محل الشاهد والإستدلال عليه، وهذا المعنى المشار إليه للنكتة تناوله هذا الأثر الجميل، وأرشف له).

حرث الذاكرة وتقليبها
في العموم الأغلب لا يلقي الفلاح البذور إلا بعد أن يحرث الأرض ويقلبها حتى تستقبل التربة البذور استقبالاً حسناً مصحوباً بالماء حتى يضمن نتاجاً طيباً، وهذه العملية مثيلها في إلقاء السؤال وانتظار الجواب ولكن بالمعكوس، فالسائل يلقي السؤال ليدع المتلقي يقلب تراب ذهنه ويحرث في تلافيف مخه حتى يستخرج الجواب بخاصة إذا كان السؤال ينطوي على نكتة أو فذلكة، وكما أن حرث الأرض تقوية لها فإن التفكير في الجواب هو في واقعه تقوية لذاكرة المتلقي وتقليب في محفوظاته، وهي عملية إحيائية تأتي بالنفع على المجيب في الدائرة الضيقة ونفع عميم في الدائرة الواسعة إذا ظهر الجواب للملأ.
ومن العينات الجميلة للأسئلة وأجوبتها هو ما يتعلق بالسؤال رقم (68) عن أول مركبة فضائية انطلقت في العهد الإسلامي؟
فكانت مركبة البراق التي استقلها النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلَّم هي جواب السؤال، حيث أقلَّته أولاً عليه الصلاة والسلام من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في القدس الشريف ومنه إلى عمق الفضاء ثم سدرة المنتهى، كما في قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الإسراء: 1، وقوله تعالى: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) سورة النجم: 8- 18.
وأجمل ما في جواب السؤال أن المحقق الكرباسي بالجمع بين النصوص المقدسة والشريفة مع العلم الحديث إلى جانب المسافة التي كان يقطعها المسافر في عصر الإسلام الأول بالكيلومترات استطاع ضمن معادلات رياضية أن يحدد السرعة التي بها انطلقت مركبة البراق في حركتها فكانت 4,461,111 مليون كليو مترات في الدقيقة الواحدة.
وفي النكتة الثانية ما يتعلق بجواب السؤال رقم (73) عن أول طائرة حلَّقت في التاريخ؟، فكان بساط أو المركوب الجوي للنبي سليمان هو جوابها كما في قوله تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ) سورة سبأ: 12.
وأجمل ما في جواب السؤال أن المحقق الكرباسي كما في المسألة السابقة استطاع ضمن حسابات رياضية استناداّ الى القرآن والواقع أن يحدد سرعة طائرة سليمان التي كانت تسير بنحو 450 كيلو متراً في الساعة.
وعندما يلامس الكتاب ذهنية المتلقي ويسأله عن: متى ومَن قسَّم دائرة الكرة الأرضية إلى درجات؟
يأتي المحقق الكرباسي بالجواب من بطون التاريخ لينسبها إلى الإمام علي عليه السلام الذي قسَّم الكرضية الأرضية إلى 360 درجة وهو القائل: “إنَّ للشمس ثلاثمائة وستين برجاً”، وفي نص آخر: “لها ثلاثمائة وستون مشرقاً وثلاثمائة وستون مغربا”، ومن هنا قالوا أن صوت المؤذن لا ينقطع على مدار الساعة، ففي كل درجة أرضية وأفق أذان فجر أو أذان غروب.
ولأن الكتاب قصد منه المؤلف التنفيس والترفيه بأسلوب علمي معرفي جميل، فإنه وعلى هذا المنوال نظم فيه مخمساً من بحر الرجز قال فيه:
في سِفْرِنا هذا ترى فيه نُكَتْ
حتماً تقوِّي الذهنَ حيثُ الذاكرةْ
إذْ عِبْرَةٌ فيها لِنَفْسٍ ماهرةْ
ترفيهُنا عِلمٌ به في الدائرة
تعبيرُ نفسٍ هكذا فيكُم حَكَت
وانتهى الكتاب الماتع بتقريظ من نظم الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز شَبِّين، من بحر مجزوء الوافر، يشيرُ فيها إلى روعة النكت وقدرة المؤلف أبو علاء الكرباسي في توظيفها ترفيهيا وعلمياً، حيث يقول في المطلع:
أمِنْ نُكَتٍ على غُصْنِ *** سَلا قَلْبٌ عن الحُزْنِ
ويختمها بقوله:
يُرَوِّيه النَّدى كَرْبا *** سُ رَيَّ الإنسِ للجِنِّ
كهاروتَ إستمَدَّ أبو *** علاءٍ بِدْعَةَ الفَنِّ
والكتاب في واقعه رحلة جميلة في عالم المبهمات التي تفتح طلاسم استفهاماتها الجوابات النيرات.
الرأي الآخر للدراسات- لندن

اترك رد