هل نحن افتراضيّون؟..د.ريم شطيح

منبر العراق الحر :
في هذا العالم الإلكتروني الذي يُتيحُ للفرد التعرُّف على شخصيات
من خلال هذه الشاشة التي تعكس أفكاراً ومشاعرَ وأحلاماً
لهذا الخليط من البشر؛ تعكس أيضاً وجوهاً جميلةً وسعيدةً
وأخرى حزينةً وتعِبةً. في هذا العالم الجميل، يكتشف الفرد أنّ لا حدود للمسافات حيث قد يلتقي بأصدقاء حقيقيين وشركاء فِكر قد لا يجدهم في محيطه الاجتماعي. وأنّ للمشاعر أيضاً مساحات قد لا تكفيها كل هذه الأدوات ولا هذه الشاشة المُضيئة على أحلام وأفكار وخيالات طالت بالبعض حَدّ التطرُّف أو التخفّي والاستسلام. إنه عالمٌ حقيقيّ بكل أدواته.
يُخطِئ من يُقلّل من قيمة العلاقات هنا على هذه الشاشة على أنها ليست كالعلاقة الاجتماعيةالحقيقية، حيث لا معنى لكلمة “افتراضية” هنا ونحن كُلُّنا حقيقيون. إن الافتراض بمعناه الدقيق يعني احتمالية عدم وجود الشيء، أي الشيء الغير محسوس، بينما مَن يقدّم أفكاره وكتاباته ومشاركاته إنما يقدّم من خلالها حقيقةً تمثّله تحمل روحه وإحساسه وأفكاره كما هي حال الكتُب التي نقرأها ونتعرّف على فِكر الكاتب ولا نعرف الكاتب شخصياً. العلاقة هنا على الفيس بوك هي تماماً كالعلاقة خارجه كأيّ علاقة اجتماعية إنسانية؛ فيها من العَطاء والتبادُليّة والاهتمام والمحبة والتعاطُف وفي بعضها أيضاً من الحساسية والغيرة والتجاهُل والكراهية. وكلّ تصرّف يمثّل شخصية فاعله وأخلاقها، فسلوك الفرد هنا مرآة لشخصيته ونفسيّته. وكم كشَفَ هذا العالم الصغير نفسيات لأشخاص عرفهم الفرد في الواقع وذُهِلَ بهم يحملون له محبةً ودعماً أكثر مِمّا يعرفه بطريقة مشاركتهم معه ودعمهم، أو تفاجَأ بهم يحملون له كراهيةً وغيرةً أبعد مِمّا قد يتوقّع أو يخطر في باله.
من هنا، فقد كان لهذا العالم وراء الشاشة أهمية كبرى في تسليط الضوء ليس فقط على شخصيات معينة؛ بل على شعوب وعقلية أمم تحمل في مجملها خصائص (Characteristics) لجِينات معيّنة لشعوب لطالما عاشت حياة الكبت والقمع والتهميش فانطلقتْ في هذا المكان لتتمخّضَ بعضاً من الجمال والإبداع الحقيقي وبعضاً من البشاعة والشّر المُطلَق المُخيف. وليس الهدف هو الإدانة هنا، لأنّ الإنسان من الطبيعي أن يسلكَ ما يُعبّر عنه وأن يتكلّم لغته التي يعرفها، لكن من المؤكَّد وهو ما عرفتْه الشعوب واختبرتْه في كل المجالات انّ الصدق فقط هو الذي يصل وانّ الناس أذكى من أنْ يستطيع أحد خداعهم ببضع كلمات، وانّ ما يُبنى على الحقيقة والمحبة هو فقط ما يدوم ويُزهِر وينمو.
وتِباعاً، والمُراد قوله من كلِّ هذا، هو أننا جميعاً كبشر كما نُخطئ في حياتنا الواقعية قد نخطئ هنا أيضاً إنْ كان في آرائنا أو ردود أفعالنا، ولكن ماذا لو افترضْنا حُسن النية من البداية وتعامَلْنا مع الآخرين على هذا الأساس قبل أن نحكم سلباً وننهال عليهم بالتُّهم والتخوين ونُطلِق لغضبِنا العنان بردود أفعال عنيفة جداً وقاسية جداً على خلفية شخص ما كتب منشوراً، أو امرأة نشرت ڤيديو تتداول فيه رأيَها، أو صديق أعلن موقفاً ما سياسياً كان أو دينياً، فردود الأفعال هنا تُحسَب مُضاعفة بسبب الصدى الذي تفتعله ولأنّ هذا منبر مفتوح للجميع ليروا حتى ردود أفعال الفرد وقد يتأثّروا بها ويبنوا عليها وقد يدمّر حياة شخص على خلفية هذا بكلّ جدية.
إنّ التفاوتَ الثقافيَّ والاجتماعي أيضاً الموجود هنا هو شيء جميل ويُغني الآخَر وفي نفس الوقت قد يكون مُخيفاً بنفس المقدار. لكنه فضاء واسع قد يُجبر الفرد – إنْ لم تكن هذه إحدى خصاله – قد يُجبره على الاستماع للرأي الآخَر والفِكر الآخَر حتى لو لم يقبله، ويُعطيه فرصةً للتعبير والتعلّم على التعايُش وتقبُّل الاختلاف الذي قلّما يسمعه أو يختبره في جلسات العلاقات الاجتماعية الواقعية الموصوم ‘بعضها’ بالبعد نوعاً ما عن فتح باب النقاشات “على مصراعيه” وتقبُّل الاختلاف الجذري – أحياناً – والبقاء بالعلاقة.
قد تختلف تجربتي هنا عن تجربة غيري، وهذا طبيعي، لكن لهذا الفضاء هنا حتماً سحره الخاص بكل أدواته، وقد نجد حقاً أصدقاء وشُركاء فِكر وشُركاء محبة أيضاً لم نختبرهم في علاقات أخرى. المحبة لا تكذب، وكذا الأصدقاء هنا من وراء هذه الشاشة، المحبة ليست افتراضية؛ بل العلاقات التي تخلو من روابط المحبة والتشارُكية الحقيقية فِكرياً وإنسانياً قد تكون هي الافتراضية حتى لو كانت واقعية.

اترك رد